أمير تاج السر
في روايته الأولى «سميدرا»، التي صدرت عن دار الوتد بالدوحة هذا العام، يفاجئ عبد الرحمن سالم الكواري، الوزير السابق، والطبيب المتخصص في طب الأسرة، كل من سيقرأ هذه الرواية أن هناك كاتبا حقيقيا، أخفاه العمل العام، والمسؤوليات الكبيرة، عن نظر الكتابة زمنا طويلا. لكن بعد أن تركه، عاد الوهج مجددا، أو لنقل استيقظ ما كان خامدا من جراثيم الكتابة، ليجلس ويكتب لنا هذه الملحمة، الرواية الأولى الجيدة، والتي بما حوته من عوالم وأحداث وشخصيات، يمكن أن تلتحق بسهولة بما اصطلح على تسميته بروايات الربيع العربي.
وكلنا يعرف الربيع العربي وبصماته على الكتابة الإبداعية، وحقيقة ثمة نتاج كبير ظهر بعد تلك الثورات الشعبية التي اندلعت للقضاء على حكم الطغاة، ونجح بعضها، في ما ظل البعض معلقا، تتأرجح به الظروف.
والناتج الإبداعي، كان بعضه جيدا جدا، وبعضه، مجرد إضافات غير مجدية، حاول بها البعض من الذين يكتبون بلا موهبة أو دراية إضافته للإبداع، ولم يحصل على تلك المزية بكل تأكيد.
«سميدرا» إذن من روايات الربيع العربي، وما بعده من تداعيات، حيث تدور أحداثها الأولى في الشام، هناك عند أسرة آل شاكر العريقة، التي انتمى أفرادها من الأجداد إلى الجهاد ضد المستعمر، واستشهد منهم من استشهد، وعاش من عاش ليروي لنا قصص كفاح ملهمة.
الأحداث في زمن الظلم، والتمزق، والطغيان، والثورة عليه كما كان لا بد، سميدرا الفتاة الجميلة الطموحة، والحفيدة النابهة من آل شاكر، والتي ماتت أمها ساعة ولادتها، لا ينتهي أملها باليتم، ولا تنظر إلى الحياة نظرة قاتمة، بل تفتح لها ذراعيها، وتحتضنها، وتترعرع في بيئة أهلها تحت رعاية زوجة عمها محمود، أمها الثانية، وتقترب أو تبتعد من الأب المشغول بالنضال ضد الطغيان، حيث يغيب فترة يقضيها في المقاومة، ويعود قليلا، ليذهب. وهنا يشير المؤلف إلى ترابط تلك الأسرة، وأن عما وزوجته يمكن أن يشكلا بسهولة صفة والدين حميمين لفتاة يتيمة.
سميدرا تدرس في مدرسة البلدة، تتعلم وتكبر وتصادق هدية، الفتاة الهادئة التي لن تتخلى عنها أبدا، وستساند طموحها وتدفعها إلى تكملة مشوارها العلمي. أيضا تتعرف بعمق على شقيق هدية رامي الذي ستعشقه ويعشقها، ويكبر ليصبح ضابطا في الجيش، جسده في معسكرات السلطة، وعقله في ميادين المقاومة، وقلبه بالطبع عند سميدرا، التي لن يتركها مهما تباعدت بينهما المسافات واختلفت الأماكن، حيث سيكون واقفا ينتظرها في المشهد الختامي لهذه الرواية.
إذن ستتبع سميدرا طموحها، ستسافر لتكملة دراستها في الفيزياء في اسطنبول، حيث يوجد أحمد، طالب الصيدلة النزق، الملقب بالصياد لكثرة إغوائه للفتيات، ابن بلدتها، ابن ماهر التاجر الذي سينضم لاحقا للمقاومة، ويضحي بتجارته من أجلها.
من اسطنبول وبناء على توصية بروفيسور فرنسي يدرس هناك وينتبه إلى ذكاء سميدرا، وأنها تشكل نواة عالمة، يمكن الاستفادة من نبوغها مستقبلا، يتم ضم الفتاة إلى طاقم بحثي في باريس، يعمل في ملاحقة انقسام الخلايا الفيروسية، مما سيحد من وجود كثير من الأمراض. ستعمل مع الطاقم البحثي، وتواصل دراستها، وهذا ما حدث.
هنا لا يتوقف الأمر عند حد تحصيل العلم، والبحث لفائدة الإنسانية، لكن تنمو بذرة النضال أيضا، وتجمع الفتاة كل من تضرر من ظلم أو طغيان، وكل من تشرد في الدنيا، لتكون منظمة أحرار بلا حدود، التي ستتوسع بعد ذلك، وتجذب إليها الأنظار، وتقدم خدمات جليلة لكل المحتاجين.
الرواية كما هو متوقع تطوف بنا في دهاليز الأجهزة الأمنية، حيث التعذيب الذي يخضع له المطالبون بالحرية، تذهب بنا إلى معسكرات اللاجئين في أوروبا، حيث الحياة الصعبة، والآمال العريضة، وأيضا الحنين إلى البلاد الطاردة بالرغم من كل شيء. سنرى مقاطع عن الهجرة الشاقة الخطرة، عن المطاردات والعنف الذي يطال ويبطش في كل مكان، ولدرجة أن تتعرض البطلة نفسها إلى إطلاق الرصاص، لكنها لا تموت، لتظل ضوءا أبديا، وأيضا صوتا ينادي به الذين أخرسوا ظلما.
ولا أنسى وجود شخصيات مهمة مثل جاسم القطري الذي سهل لسيمدرا حضور مؤتمر عن الحريات عقد في الدوحة، وساهم مع أخته في دعمها، أيضا الشخصية المتحولة لأحمد حين تأثر بالدرس الذي تلقنه من سميدرا، وأصبح دعما قويا للمقاومة داخل النظام.
الرواية تبدو متماسكة، بأحداث من الممكن أن تكون حدثت، لكن من الواضح أن ثمة مجهودا بحثيا قد حدث، وقد قال المؤلف في حفل التدشين، أنه كان يتابع مغردة غالبا من الشام، تكتب باستمرار عن مأساتها ومأساة بلدها، وتجد تفاعلا كبيرا من المتلقين، وأنها اختفت ذات يوم، من دون أن يعرف أين ذهبت، لكنها ألهمته الرواية.
هذا بالطبع ممكن، والكتابة الإبداعية تستلهم من كل شيء، وقصة عن الثورات، لا بد تستلهم ممن عاش اندلاعها، وربما تشرد عن بلده بسبب مساندتها.
مسألة أخرى يختص بها الكتاب الأطباء، وهي حضور الأمراض وأعراضها وأيضا علاجاتها في كتاباتهم الإبداعية. إنه تأثر مهني لا يمكن التغاضي عنه أو إفلاته، ولا أظنه يخفى على أحد، وهنا تصاب البطلة بمرض التصلب المتعدد، ولكنها لا تسقط، وتواصل طريق الحرية عبر منظمة أحرار بلا حدود.
أخيرا أجدد احترامي لهذه الرواية الأولى وأتوقع روايات أخرى بعدها، تتحدث عن بيئة الخليج التي ما تزال حتى الآن بيئة لم تنكشف جيدا، وأظن عبد الرحن الكواري يستطيع كتابة هذا النوع من الروايات.
*كاتب من السودان